خلال نوفمبر الماضي، وأثناء مناقشة لجنة الخمسين المشكلة لصياغة دستور البلاد، توصلت اللجنة لصياغة مادة تتعلق بالمحاكمات العسكرية تنص على :
"القضاء العسكرى جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل فى كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها ومن فى حكمهم، والجرائم المرتكبة من أفراد المخابرات العامة أثناء وبسبب الخدمة.
ولا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكرى، إلا فى الجرائم التى تمثل اعتداءً مباشرًا على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما فى حكمها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التى تمثل اعتداء مباشرًا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم.
ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكرى الأخرى".
وهي الصياغة التي اعترض عليها العدد من القانونيين والحقوقيين، باعتبارها صياغة مطاطة تسمح بمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري.
(2)
توجه عدد من المواطنين يوم 26 من نفس الشهر لمقر انعقاد الجمعية التأسيسية لمجلس الشورى ليعنوا رفضهم محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، مطالبين بأن يمنع الدستور صراحة محاكمة المدنيين أمام أي جهة باستثناء قاضيهم الطبيعي. وما أن يقفوا أمام مقر مجلس الشورى؛ حتى تقوم قوات الأمن بالاعتداء عليهم بالضرب وإطلاق الغازات المسيلة للدموع لتفريفهم، والقبض على عدد منهم واتهامهم بكسر قانون التظاهر، حيث تم تقديمهم للمحاكمة التي شهدت إهدارًا كبيرًا لحقهم في الدفاع، إنتهت بالحكم على 25 منهم بالسجن خمسة عشر عامًا وغرامة 100 ألف جنيه لكل منهم.
برر مؤيدو النظام العنف المفرط، الذي ووجه به المتظاهرون، بأن هؤلاء المتظاهرين يسعون لزعزعة الاستقرار؛ مؤكدين أن المادة بهذه الصياغة، لن تؤدي إلا لعقاب من يهاجم منشآت القوات المسلحة فقط. وتجاهلوا ما قاله المعارضون، من أن القوات المسلحة تدير منشآت اقتصادية مثل محطات الوقود والمصانع وسيارات لنقل منتجات تلك المصانع وقاعات احتفالات وأندية وبعض الطرق ، وسيؤدي أي احتكاك أو حادث يشمل مدنيين، إلى تقديم هؤلاء المدنيين إلى محاكمة عسكرية! واستغل المؤيدون سيطرتهم على وسائل الإعلام المختلفة، ليضللوا المواطنين، مدعين أن هذه الاحتمالات ما هي إلا محض أوهام المعارضين.
(3)
منذ أيام، ذهب شاب بصحبة زوجته وأبنائه وعائلته، إلى محطة وقود تابعة للقوات المسلحة، لتزويد سيارته بالوقود أثناء عودتهم من قضاء إجازة العيد. وعندما لاحظ تعطل السيارات أمام ماكينات تزويد الوقود، تساءل عن سبب تأخر حصوله على الخدمة، وهو الأمر الذي تطور لمشادة كلامية بينه وبين أحد العاملين بالمحطة، وانتهى بتكسير زجاج سيارته ـ وبداخلها زوجته وأطفاله ـ والاعتداء عليه، ثم اصطحابه للنيابة العسكرية للتحقيق معه تمهيدًا لمحاكمته عسكريًا!
(4)
تأكد اليوم ما كان يقوله معارضو صياغة المادة بالدستور على هذا النحو. واتضح أن دخولك احدى قاعات الاحتفال أو الفنادق أو محطات الوقود التي تديرها القوات المسلحة، كفيل في حالة حدوث أي احتكاك بإحالتك لمحاكمة عسكرية! بل إن أي حادث قد تتعرض له مع سيارة تابعة لأحد مصانع القوات المسلحة، أو حتى حادث على طريق تديره القوات المسلحة كفيل بأن تجد نفسك متهمًا في قضية عسكرية، تحاكم أمام ضابط تابع إداريا وتنظيميًا لوزير الدفاع ـ لا قاض مستقل ـ فيصبح قاضيك هو خصمك في ذات الوقت، فهل تتوقع الإنصاف؟.
(5)
العدالة منظومة متكاملة، وبداية التنازل أو التغاضي عن جزء منها لن ينتج عنه سوى انهيارها تدريجيًا، حتى تصبح ظلمًا واضحًا. ولتعلم أن تبرير المحاكمات العسكرية للمدنيين، على أمل أنها لن تطبق إلا على من يعتدي على منشآت القوات المسلحة، سيجعل منك في أي لحظة متهمًا أمام القضاء العسكري. والصمت على صدور أحكام معيبة سواء بالإعدام لخمسمائة شخص في قضية واحدة، أو بالسجن الذي يصل لخمسة عشر عامًا في اتهام بكسر قانون التظاهر، وفي المقابل ثلاث سنوات للضابط المدان بفقأ عين ما يزيد على 40 شخص وغيرها من الأمثلة، سيجعل منك غدًا ضحية لتلك المنظومة!
قد تحميك علاقاتك المتشعبة مع دوائر السلطة، أو وضعك الاجتماعي أو الطبقي من أن تكون ضحية تلك المنظومة، مؤقتًا؛ لكن ألا ترى أن انهيار ثقة الناس في أن القضاء سيقتص لهم ويجلب لهم حقوقهم، سيدفعهم لاقتضاء حقوقهم بأيديهم؟ وسيؤدي بنا جميعًا إلى فوضي عارمة؟ يومها لن تجد من يحميك ويحمي أبناءك من هذه الفوضي، وحينها ستعرف أنك تأخرت جدًا في الدفاع عن العدالة الغائبة. عليك أن تقف الآن ضد غياب العدالة التي لا تمسك، قبل أن تأتي الفوضى ولا تجد من ينقذك. - See more at:
http://www.elhasad.com/2014/08/blog-post_814.html#sthash.A3bAakv7.dpuf