بعد «التمهيدات» الواردة فى مقالة الأسبوع الماضى، علينا أن نشرع، ابتداءً من اليوم، فى إلقاء مزيدٍ من الضوء على «التجليات الداعشية» التى انتشرت مؤخراً ببلادنا، وإن اختلفت أسماؤها. وسيكون كلامنا التفصيلى متصلاً على هذا التوالى: مصر، تونس، ليبيا، سوريا، العراق، اليمن، السودان. على أمل أن يتوقف «الانتشار الداعشى» عند هذه التجليات السبعة لذاك الجوهر الواحد (الذى هو فى حقيقة الأمر: الهوسُ الهمجىُّ باسم الدين) فلا يتعداه إلى الانتشار ببلاد عربية أخرى، كالجزائر التى يثير وضعها الحالى كثيراً من القلق ويكتنفه الغموض.. ماذا لو مات «بوتفليقة»، القعيد، فجأةً؟!
ولا يفوتنا هنا ما أشارت إليه المقالةُ السابقة من أن تعدُّد الأسماء «المعاصرة» لـ«داعش والداعشية» لا يعنى الاختلاف فى النهج العام لتلك الجماعات، بدائية النزعة، المستترة حول رايات الإسلام. فهذه المسميات، على اختلافها، لا تشير إلا لهذا الجوهر الواحد.. المريع.
ولا يفوتنا أيضاً أن استعمال لفظ «داعش» كمختصر لدولة الإسلام فى العراق والشام، واستعمال لفظ «دامل» كمختصر لدولة الإسلام فى مصر وليبيا. هو ظاهرة لغوية لم تعرفها الثقافة العربية الإسلامية عبر تاريخها الطويل، فلم يشتهر فى تاريخنا اسمٌ تراثى مأخوذٌ من الأحرف الأولى لعدة كلمات. وإنما هى خاصية حديثة فى اللغة الإنجليزية، تُعرف باسم Abbreviation، وقد شهرها الإعلام الغربى، خصوصاً الأمريكى منه. على النحو المعتاد فى قولهم «يو إن» كمختصر لاسم الهيئة الدولية الأكبر: الأمم المتحدة، أو قولهم «سى آى إيه» كاختصار مأخوذ من الأحرف الأولى لوكالة الاستخبارات المركزية (الأمريكية) أو قولهم «إف بى آى» كاسمٍ مختصر لمكتب التحقيقات الفيدرالى (الأمريكى).. فهل تدل طريقة اشتقاق اختصار «داعش» بهذه الطريقة الغربية، الأمريكية تحديداً، على الأصل والمصدر الأول الذى نبعت منه مؤخَّراً تلك الجماعات؟!
ولا يفوتنا أخيراً أن راية «داعش» سوداءَ اللونِ تحمل صورةً يظنُّ الجهالُ أنها «ختم نبى الإسلام».. مع أننى ذكرتُ قبل سنوات فى عدة مقالات، وفى فصلٍ خاص من كتابى «دوامات التدين»، أن هذه الأختام النبوية مشكوك فيها تماماً، ومأخوذة من رسائل النبى المشكوك فيها ولا يمكن أن تكون حقيقية. والأرجح أنها خطأ أو تدليسٌ أو تزوير. فهل يدل ذلك على طبيعة تفكير هذه الجماعات وطريقتها فى التقاط الرموز غير المؤكِّدة، وغير المنكرة عند عوام الناس، لإضفاء قداسة وهمية على هذه «الراية» وعلى الذين يحاربون تحتها، ويقتلون، وينكحون نساءً كالسبايا، ويروِّعون الآمنين من المسلمين وغير المسلمين؟
■ ■
قلتُ مرةً، فى سياقٍ آخر: أصول الأشياء جميعاً، أو على الأقل معظمها، تنبع أولاً من مصر ثم تنتشر فى الأرض.. وقد بدأت بمصر، ظاهرةُ الاستناد إلى الأساس الدينى للحكم السياسى، والاحتكام إلى العقيدة (القويمة) كوسيلةٍ مُثلى للوصول إلى السلطة والبقاء فيها. سعى إلى ذلك أساقفةُ الإسكندرية القدماء فنجحوا حيناً ثم فشلوا، وسعى إليه «المقوقس» ففشل فشلاً ذريعاً. وحاوله «القرامطة» وفشلوا، والفاطميون فنجحوا، والدروز ففشلوا، والمماليك فنجحوا حيناً (بإحياء الخلافة العباسية فى القاهرة) ثم فشلوا بسبب الترهُّل السلطوى وبسبب اجتياح العثمانيين للبلاد باسم «الخلافة الإسلامية السُّنية» فى مواجهة المدّ الشيعى لدولة الصفويين بإيران (بلاد فارس القديمة).
وفى الزمن الحديث، والمعاصر، استمرت هذه الظاهرة العجيبة مع محاولات ما سوف يسمى «الإحياء الدينى». وهو الاتجاه الذى قاده جمال الدين الأفغانى، الذى عاش بمصر حيناً وسكن القاهرة فى القرن التاسع عشر، وكان كثير الجلوس على مقهى «متاتيا» الذى كان موجوداً فى مكان «جراج الأوبرا» الحالى، متعدِّد الطوابق.. وقد وصف المؤرّخون والمعاصرون له هذه الجلسات بأن «الأفغانى» كان يجلس على مقهى متاتيا، يوزِّع السعوط (النشوق) بيمناه، والثورة بيُسراه (يده اليسرى).
فلما سقطت الخلافة العثمانية سقوطها المدوّى فى تركيا، أو بالأحرى أُسقطت، سعى الملك فؤاد فى مصر والملك سعود فى نجد والحجاز لاحتلال هذه الوظيفة الشاغرة. ونادى كُلٌّ منهم، أو تنادى، ليكون هو «خليفة المسلمين». فانتعشت أحلامُ الجماعة التى خرجت من عباءة محمد رشيد رضا، تلميذ الشيخ الإمام محمد عبده، تلميذ الشيخ الوافد «الأفغانى»، فظهرت الجماعة التى أعطت نفسها الاسم الذى صار لاحقاً مشهوراً: الإخوان المسلمين.
وخلال الثمانين عاماً الماضية، تنازع «الإخوان» والسلطات السياسية فى مصر: القصر الملكى أيام الملك فاروق، القصر الجمهورى أيام «عبدالناصر والسادات ومبارك»، فتوالت ويلاتٌ كثيرة فى طريق سعيهم إلى السلطة السياسية، فكانت الاغتيالاتُ الإخوانية والمطارداتُ البوليسية لأعضاء الجماعة، وكان التأسيس الإسلامى للحكم بتجنيد عوام الناس وجُهّالهم، وكان الاضطهاد الحكومى المريع لهذه الجماعة.. وخلال هذا المسار المرير، الطويل، كانت الفرصة سانحة لمجموعات تدَّعى هى الأخرى أنها «إسلامية» أو أنها أكثر من بقية المصريين «إسلاماً»، وبالتالى فهى الأحق بالحكم، والأقدر على إحياء حُلم الخلافة الخرافى، وتحقيق وَهْم تطبيق الشريعة (دون تبيانٍ واضحٍ لمفهوم الشريعة عندهم، وعلى أىِّ مذهبٍ فقهى واتجاهٍ أصولى وعقائدى سوف يطبِّقونها).
وقد تنوَّعت فى مصر مسمياتُ هذه الجماعات، المتوسِّلة بالدين إلى الدنيا، فكان منهم جماعة يسميها أهل الصعيد فى السبعينات والثمانينات «السُّنيين» ويسمون أنفسهم «الوهابية»، مع أن أصحاب المذهب الوهابى على المذهب الحنبلى فى الفقه، بينما معظم المصريين على المذهب الشافعى (وإن كانوا لا يعلمون!)، والمذهب الفقهى الرسمى للدولة المصرية، هو المذهب الحنفىُّ (أيام كان للدولة مذهب!) وكانت منهم جماعاتٌ أخرى، بمسمياتٍ أخرى، منها: التبليغ والدعوة، التكفير والهجرة، الجماعة الإسلامية، السلفية الجهادية، المصريون الأفغان.. وغير ذلك من المسميات، ومن الجماعات التى يجمع بينها أنها إسلامية الإطار (كأن معظم المصريين ليسوا مسلمين) وساعية إلى السلطة (كأن السلطة ليست هدفاً لمعظم الناس) ومتشحة بمسحةٍ دينية شكلية أشهرها اللحية (كأن القساوسة وكفار قريش وكارل ماركس ونُسَّاك الهنود، ليسوا مُلتحين).
وبصرف النظر عن تعدُّد المسميات والنزعات العامة لهذه «الجماعات»، فإنها جميعاً تجليات لجوهرٍ واحد، وتحكمها كلها طريقةُ تفكيرٍ واحدةٌ تعتمد مبدئياً على إعطاء الأولوية والأفضلية لعضو هذه الجماعة أو تلك، على بقية الناس، استناداً لمعيار «الإيمان». وهو، مع احترامى له، معيارٌ مراوغٌ لا يمكن ضبطه أو تحديد ملامحه بدقة؛ لأن الإيمان فى نهاية الأمر: سرٌّ قائمٌ بين الإنسان والله.. وهو يزيد وينقص، حسبما ورد بوضوح فى حديثٍ نبوىٍّ مشهور. فكيف يكون الإيمانُ معياراً للمفاضلة بين الناس؟
والفارق بين هذه الجماعات، جميعها، هو فارقٌ فى الدرجة لا النوع.. و«الوفاق» منعدمٌ فيما بينها، و«الشقاق» قائم بالضرورة بين أفراد كل جماعة وبعضهم البعض، وبين هذه الجماعة وغيرها من الجماعات الأخرى، الشقيقة، وبين أفراد هذه الجماعات مجتمعةً وأفراد المجتمع الذين لا ينتمون إلى جماعة دينية معينة.
ولأن الاحتكام لمعيار «الإيمان» المراوغ يؤدى بالضرورة إلى التشوُّش والتشوُّه فى رؤية الفرد لنفسه؛ حيث «كل ابن آدم خطَّاء». وفى نظرته الخاصة لجماعته الأقربين؛ حيث «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا». وفى رؤيته لبقية أفراد المجتمع بل ولعموم البشر، حيث: «قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ».
وتسير الجماعة الدينية قُدماً على المنوال الثلاثى الذى تحدَّثت عنه تفصيلاً فى كتابى «اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى»، فتمرُّ بأفرادها عبر محطات: الإنابة، الخروج، الإبادة.. فيكون المنطلق الأساسى هو أن الواحد منهم نائب فى الأرض عن الله، ومضطرٌّ إلى الخروج من المجتمع أو الانزواء عنه إلى حين امتلاكه القدرة على تحقيق الهدف النهائى، وهو إبادة المخالف له والمختلف معه تمهيداً للرجوع بالمجتمع الإسلامى إلى نقائه الأول. بحسب أوهامهم، ووفقاً لإنكارهم لهذه الحقيقة البدهية: عقارب الساعة لا تتحرك إلى الوراء.. لكن نجاح بعض التجارب المشابهة، مثل دولة الملالى فى إيران الخومينى المعاصرة، يُغرى هذه الجماعات «الإسلامية» بالاستمرار فى أوهامها وفى إنكارها للبدهيات.
وعندما يصير القتل شرعةً ومنهاجاً، يستذئب المتحمسُ دينياً وتصير له طباع الضباع، فلا يراعى حُرمةً لغيره.. لماذا؟ لأن جميع المخالفين والمختلفين معه على خطأ.. لماذا؟ لأن الحقيقة واحدة ومُطلقة، وهو يمتلكها، والآخرون مخطئون.. لماذا؟ لأن المخطئ فى الاعتقاد والمذهب والديانة لا يستحق الحياة التى وهبها الله له.. فيكون فتكٌ..
ويكون قتلٌ..
ويكون كُفرٌ..
فيكون فُجرٌ..
.. وتكون «داعش».
■ ■
ولا شك عندى فى أن ثورة يناير كانت ثورة مصرية مجيدة، حقَّقت المفهوم العميق والحقيقى للثورة، وقد شاركت فيها من يومها الأول (ودفعتُ الثمن باهظاً).. ولا شك عندى فى أن الثورة تمَّ التلاعب بها، بسبب اختلاف الرؤى والمصالح. ومع قصور الوعى العام عند معظم الثائرين، تحوَّلت الثورة إلى فورة (ولذلك قلتُ سابقاً، وكرّرتُ كثيراً: الوعى وقود الثورة).. ولا شك عندى فى أن عناصر كثيرة، خبيثة، ظلّت تلعب فى الميدان الثورى لتحقيق أغراض غير ثورية، ولا تزال تلعب إلى اليوم هذا اللعب الخبيث، الخفى، المسُمى: أجندات خارجية، الطابور الخامس، خيانة... إلخ.
وفى غمرة ذلك كله، ولما اقترب الإخوانُ من سدة الحكم المصرى، ثم وصلوا إلى كرسى الرئاسة بغتةً. اهتاجت فى نفوس كثيرٍ من الناس تلك المشاعر «البدائية» ذات الطابع الهمجى السائد فى الزمن السابق على الحضارة الإنسانية. واستعلنت فى الشارع المصرى إشاراتٌ غريبة، نكاد اليوم ننساها لأننا نريد أن ننساها، ولكن لا بأس الآن من التذكير بها أو ببعضها، مع العلم بأنها كانت إشارات مراوغة وخادعة (أو بالأحرى: فقاعية) تدلُّ على رغبة بعض الناس فى مصر، فى الحالة الداعشية التى أطلت بواكيرها فى وقائع عديدة كان منها: خروج البدائيين إلى ميدان التحرير بالآلاف فيما سمى آنذاك «جمعة قندهار».. الزعم الإعلامى الذى يُصرُّ على تكرار أن الإسكندرية «عاصمة السلفية».. جرأة أحد المُلتحين وإعلانه، فى مؤتمر شعبىٍّ حاشد، أن مطروح عاصمة لدولة الإسلام.. انتشار قولهم الساذج إن الشيخ «فلان» هو أعلم أهل الأرض.. انتشار الشعارات التافهة التى تداعب مشاعر العوام، مثل: على القدس رايحين شهداء بالملايين، خيبر خيبر يا يهود، شرعية شرعية.. الإسراف فى طرح غرائب الأفكار وأكثرها إدهاشاً، بلا مناسبة، مثل قولهم: المسيحيون مشركون بالله، أهل الإسلام هو الحل.
وفى لحظاتٍ مريرةٍ مرت بنا فى الأعوام الثلاثة الماضية، كاد الحالُ ينفلت فى مصر فيتَّسع بها المدى أمام النزعة الداعشية الهمجية.. كاد ذلك يحدث مرات عدة وفى عدة مناسبات، منها: أحداثُ الكُشح، اعتصام «رابعة»، استعصام كرداسة، حصار مدينة الإعلام، محاولة نشر الرعب فى أعقاب زلزال 30/6، الإجرام الذى جرى بسيناء.. ولكن، لم يرضَ عمومُ المصريين عن تلك النزعات «الداعشية» وأعلنوا التحدى لها، وخرجوا فى وجوه هؤلاء المهووسين، فأنقذوا الجيش المصرى من المصير الذى آلت إليه الجيوش العربية المنهارة التى انهارت فى العراق وسوريا وليبيا واليمن، وأنقذوا الشرطة فى اللحظة الأخيرة. ولم يتمكّن أصحاب الصخب التدينى المهووس من تمهيد الأرض المصرية للاستقرار بها، فانسربت الداعشية إلى الأرض الفضاء المهيّأة لهم فى بلدان عربية أخرى، على أمل تكرار الكرَّة والعودة يوماً لمصر.. ولهذا الحديث بقيةٌ، ومحطّاتٌ أخرى، سوف نتوقف عندها فى المقالات المقبلة.